غازي عبداللطيف جمجوم
عشر سنوات كاملة قضاها السائق وزوجته في بيتنا وحان الوقت ليعودا إلى بلادهما في إجازة طويلة سوف يقومان فيها بتـزويج ابنهما ولمّ شمل أسرتهما التي غابا عنها عقدا من الزمان. هذه المرة أصرا على إجازة تتجاوز الأربعة أشهر بسبب ترتيبات الزواج الكثيرة، ولم يكن هناك مناص من قبول طلبهما. في السابق كانا يأخذان إجازات أقصر لم نكن نشعر بها كثيرا، لأنها كانت تتزامن دائما مع إجازاتنا الصيفية أو سفرنا إلى الخارج، وكانت تنقضي بصورة ما، وسرعان ما يرجعان وتعود المياه إلى مجاريها. وفعلا مر الشهر الأول هذه المرة أيضا على ما يرام بسبب سفرنا إلى الخارج. في الخارج من السهل أن ينسى المسافر منا موضوع السائق والخادمة، أو لا يتذكره إلا نادرا حين يرى ويستعجب كيف يعيش أغلب سكان البلاد الغربية المتقدمة في بلادهم دون خدم بمفهوم الخدم السائد في بلادنا الذي يتطلب الإقامة الدائمة في بيت المخدوم والجاهزية للخدمة في أي ساعة من ليل أو نهار. لا أدري كيف تطور هذا المفهوم لدينا، ولكني أتصور، أن بعض ملامحه الرئيسة متوارثة من عهود الرق السابقة، وربما كان لدى بعض الدول الغربية في عهود أشد بعدا في الماضي. فترة السفر كانت تمريناً خفيفا على الحياة بدون سائق أو خادمة، وقد تقبل الجميع هذا التمرين بروح طيبة فساهم البنات مع والدتهن في التنظيف و غسيل الملابس، بل تشجعن على لمتابعة المقاله اضغط هنا
تجربة مواهبهن في الطبخ، وساهم الجميع في شراء الاحتياجات الضرورية وفي إخراج أكياس النفايات، وفي العناية الكاملة بالصغار والانتباه عليهم داخل المنزل وخارجه. أما رب الأسرة، أنا، فكان بطبيعة الحال، يقوم بجميع مهام السائق، من قيادة السيارة المستأجرة وملء خزان وقودها عبر الخدمة الذاتية التي لا يوجد غيرها في أغلب محطات البنزين، إلى التوصيل والانتظار والمشاركة في شراء الاحتياجات المختلفة وحمل الحقائب والأمتعة. جميع الناس هناك يفعل كل ذلك وأكثر لأنه لا يوجد بديل. البساطة في المظهر وعدم التكلف يساعدان كثيرا على القيام بهذه الأعمال دون لفت أي انتباه. توفر المواصلات العامة الآمنة يساعد الجميع على التحرك حتى عند غياب السيارة أو سائقها. ليس هناك منظر الخادمة التي تحمل الطفل وتمشي به خلف سيدتها في الأسواق، إلا عندما يتعلق الأمر بالسياح العرب. يتساءل الإنسان ما الذي منع هذه الدول التي تفوقنا في الثروة وفي متوسط دخل الفرد من استخدام العمالة المنزلية الرخيصة والاستفادة منها بنفس طريقتنا نحن؟
الاختبار الحقيقي بدأ حال عودتنا إلى أرض الوطن. المهمات اختلفت في الطبيعة والحجم. من سيقوم بتنظيف المنزل الكبير الذي يعتليه الغبار؟ من سيغسل السيارات ويكنس الفناء ؟ من سيقوم بالتسوق صباح مساء، ومن سيخرج أكياس النفايات؟ هل ستسمح بذلك الثياب البيضاء الناصعة والغترة المنشّاة و الطقس الحارق، و الوضع الاجتماعي؟ من سيذهب، عند انقطاع الماء، للوقوف في الصفوف بالساعات؟ تتراكم المشاكل وتزداد التساؤلات. من سيقوم بتوصيل الصغيرة إلى المدرسة والكبيرات إلى الجامعة و إعادتهن ؟ ماذا سيكون عليه الوضع عندما يبتدئ الدوام الرسمي في العمل فيتعارض مع كل شيء؟ قلت في نفسي : كم هو رائع ذلك المسكين الذي كان يقوم نيابة عني بكل هذه المهمات المستحيلة. حمدت الله أن من عليّ من الصحة بما يمكنني من القيام ببعض هذه الأعمال، ولو لفترة قصيرة. فكرت في وضع من يعاني من الشيخوخة أو العجز ورثيت لحالهما. يشتعل التفكير في حلول مختلفة. ينشط البحث عن شركات نقل الطالبات الجامعيات والسؤال عن الحافلات المدرسية التي قد يتم تأمينها في بعض المدارس الخاصة. أتساءل : هل تمر مثل هذه الظروف على من يعارضون قيادة المرأة للسيارة ؟ وأكاد أجزم أنه، لولا السائق المستقدم، لأصبح الكلام في هذا الموضوع جدلا عقيما مترفا لا يلبث أن يتلاشى. ينتهي بنا المطاف إلى الحل العملي الوحيد لظرفنا الحالي : البحث عن سائق آخر وخادمة أخرى.. بأسرع وقت وبأي ثمن.
تذكرت كيف كنت عند عودتي من الدراسة أعارض استخدام العمالة المنزلية. ربما كان ذلك بسبب الحرص على الخصوصية العائلية، وربما لدوافع أخرى مكتسبة في الخارج. كنا وقتها نسكن في شقة بالسكن الجامعي ولم يكن لدينا أطفال في سن المدرسة. كان يكفينا مشوار واحد في الأسبوع لشراء جميع متطلبات الأكل واحتياجات المنزل. سرعان ما تغير ذلك، ورضخت بالتدريج للأمر الواقع فصار عندنا خادمة ثم سائق ثم خادمة أخرى، ثم مزارع ولو سمح المكان والإمكانيات لما توقفنا عند ذلك. بعبارة أخرى، أصبحنا مثل الجميع.
الحياة في بلادنا بدون سائق وخادمة أو بالأصح، بدون سائقين وخدم كثيرين، أصبحت صعبة جدا بل تكاد تكون شبه مستحيلة، وللأسف فقد نجحنا في تكييف حياتنا وفقا للاعتماد شبه الكلي على العمالة الرخيصة المستوردة، وشجعنا الخوف من فقدانها على مضاعفة الاستقدام احتياطاَ للإجازات أو الغياب لأسباب أخرى، بل لم يتحرج البعض من تشغيل العمالة الهاربة أو المقيمة بطريقة غير نظامية. وقد أدخلنا هذا الاعتماد في مشاكل اجتماعية وأمنية واقتصادية كثيرة، بل إنه أصبح يؤثر على مستقبل أبنائنا ويهدد التركيبة السكانية لبلادنا بشكل خطير. ومن السذاجة أن نظن أننا سنتمكن من الاستمرار في ذلك إلى ما لا نهاية.
المصدر
عشر سنوات كاملة قضاها السائق وزوجته في بيتنا وحان الوقت ليعودا إلى بلادهما في إجازة طويلة سوف يقومان فيها بتـزويج ابنهما ولمّ شمل أسرتهما التي غابا عنها عقدا من الزمان. هذه المرة أصرا على إجازة تتجاوز الأربعة أشهر بسبب ترتيبات الزواج الكثيرة، ولم يكن هناك مناص من قبول طلبهما. في السابق كانا يأخذان إجازات أقصر لم نكن نشعر بها كثيرا، لأنها كانت تتزامن دائما مع إجازاتنا الصيفية أو سفرنا إلى الخارج، وكانت تنقضي بصورة ما، وسرعان ما يرجعان وتعود المياه إلى مجاريها. وفعلا مر الشهر الأول هذه المرة أيضا على ما يرام بسبب سفرنا إلى الخارج. في الخارج من السهل أن ينسى المسافر منا موضوع السائق والخادمة، أو لا يتذكره إلا نادرا حين يرى ويستعجب كيف يعيش أغلب سكان البلاد الغربية المتقدمة في بلادهم دون خدم بمفهوم الخدم السائد في بلادنا الذي يتطلب الإقامة الدائمة في بيت المخدوم والجاهزية للخدمة في أي ساعة من ليل أو نهار. لا أدري كيف تطور هذا المفهوم لدينا، ولكني أتصور، أن بعض ملامحه الرئيسة متوارثة من عهود الرق السابقة، وربما كان لدى بعض الدول الغربية في عهود أشد بعدا في الماضي. فترة السفر كانت تمريناً خفيفا على الحياة بدون سائق أو خادمة، وقد تقبل الجميع هذا التمرين بروح طيبة فساهم البنات مع والدتهن في التنظيف و غسيل الملابس، بل تشجعن على لمتابعة المقاله اضغط هنا
تجربة مواهبهن في الطبخ، وساهم الجميع في شراء الاحتياجات الضرورية وفي إخراج أكياس النفايات، وفي العناية الكاملة بالصغار والانتباه عليهم داخل المنزل وخارجه. أما رب الأسرة، أنا، فكان بطبيعة الحال، يقوم بجميع مهام السائق، من قيادة السيارة المستأجرة وملء خزان وقودها عبر الخدمة الذاتية التي لا يوجد غيرها في أغلب محطات البنزين، إلى التوصيل والانتظار والمشاركة في شراء الاحتياجات المختلفة وحمل الحقائب والأمتعة. جميع الناس هناك يفعل كل ذلك وأكثر لأنه لا يوجد بديل. البساطة في المظهر وعدم التكلف يساعدان كثيرا على القيام بهذه الأعمال دون لفت أي انتباه. توفر المواصلات العامة الآمنة يساعد الجميع على التحرك حتى عند غياب السيارة أو سائقها. ليس هناك منظر الخادمة التي تحمل الطفل وتمشي به خلف سيدتها في الأسواق، إلا عندما يتعلق الأمر بالسياح العرب. يتساءل الإنسان ما الذي منع هذه الدول التي تفوقنا في الثروة وفي متوسط دخل الفرد من استخدام العمالة المنزلية الرخيصة والاستفادة منها بنفس طريقتنا نحن؟
الاختبار الحقيقي بدأ حال عودتنا إلى أرض الوطن. المهمات اختلفت في الطبيعة والحجم. من سيقوم بتنظيف المنزل الكبير الذي يعتليه الغبار؟ من سيغسل السيارات ويكنس الفناء ؟ من سيقوم بالتسوق صباح مساء، ومن سيخرج أكياس النفايات؟ هل ستسمح بذلك الثياب البيضاء الناصعة والغترة المنشّاة و الطقس الحارق، و الوضع الاجتماعي؟ من سيذهب، عند انقطاع الماء، للوقوف في الصفوف بالساعات؟ تتراكم المشاكل وتزداد التساؤلات. من سيقوم بتوصيل الصغيرة إلى المدرسة والكبيرات إلى الجامعة و إعادتهن ؟ ماذا سيكون عليه الوضع عندما يبتدئ الدوام الرسمي في العمل فيتعارض مع كل شيء؟ قلت في نفسي : كم هو رائع ذلك المسكين الذي كان يقوم نيابة عني بكل هذه المهمات المستحيلة. حمدت الله أن من عليّ من الصحة بما يمكنني من القيام ببعض هذه الأعمال، ولو لفترة قصيرة. فكرت في وضع من يعاني من الشيخوخة أو العجز ورثيت لحالهما. يشتعل التفكير في حلول مختلفة. ينشط البحث عن شركات نقل الطالبات الجامعيات والسؤال عن الحافلات المدرسية التي قد يتم تأمينها في بعض المدارس الخاصة. أتساءل : هل تمر مثل هذه الظروف على من يعارضون قيادة المرأة للسيارة ؟ وأكاد أجزم أنه، لولا السائق المستقدم، لأصبح الكلام في هذا الموضوع جدلا عقيما مترفا لا يلبث أن يتلاشى. ينتهي بنا المطاف إلى الحل العملي الوحيد لظرفنا الحالي : البحث عن سائق آخر وخادمة أخرى.. بأسرع وقت وبأي ثمن.
تذكرت كيف كنت عند عودتي من الدراسة أعارض استخدام العمالة المنزلية. ربما كان ذلك بسبب الحرص على الخصوصية العائلية، وربما لدوافع أخرى مكتسبة في الخارج. كنا وقتها نسكن في شقة بالسكن الجامعي ولم يكن لدينا أطفال في سن المدرسة. كان يكفينا مشوار واحد في الأسبوع لشراء جميع متطلبات الأكل واحتياجات المنزل. سرعان ما تغير ذلك، ورضخت بالتدريج للأمر الواقع فصار عندنا خادمة ثم سائق ثم خادمة أخرى، ثم مزارع ولو سمح المكان والإمكانيات لما توقفنا عند ذلك. بعبارة أخرى، أصبحنا مثل الجميع.
الحياة في بلادنا بدون سائق وخادمة أو بالأصح، بدون سائقين وخدم كثيرين، أصبحت صعبة جدا بل تكاد تكون شبه مستحيلة، وللأسف فقد نجحنا في تكييف حياتنا وفقا للاعتماد شبه الكلي على العمالة الرخيصة المستوردة، وشجعنا الخوف من فقدانها على مضاعفة الاستقدام احتياطاَ للإجازات أو الغياب لأسباب أخرى، بل لم يتحرج البعض من تشغيل العمالة الهاربة أو المقيمة بطريقة غير نظامية. وقد أدخلنا هذا الاعتماد في مشاكل اجتماعية وأمنية واقتصادية كثيرة، بل إنه أصبح يؤثر على مستقبل أبنائنا ويهدد التركيبة السكانية لبلادنا بشكل خطير. ومن السذاجة أن نظن أننا سنتمكن من الاستمرار في ذلك إلى ما لا نهاية.
المصدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق